كان النبي في بيت حفصة, فأستأذنته أن تذهب إلى ابيها فأذن لها. وفي غضون غيبتها جاءت ماريه، فأقامت مع النبي زمنً، فلما حضرت حفصه، رأت ماريه في بيتها، فانتظرت خروجها، وقلبها يشتعل وجدا وغيره. ولما خرجت مارية دخلت حفصه على النبي، فقالت: لقد رأيت من كان عندك، والله لقد سببتني، وما كنت تصنعها لولا هواني عليك.
وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الغيره قد تدفع حفصه الى إذاعة ما رأت، والتحدث به الى غيرها من الأزواج، وفي ذلك ما فيه من إثارة لغيرتهن وتحريك لحفيظتهن، فأراد ارضاءهاأ فحلف لها أن مارية حرام عليه اذا هي لم تذكرها مما رأت شيئا. فوعدته أن تكف عن اذاعة ما كان.
لكن الطبيعه النسويه كانت اقوى جماحاً، اذ تحركت الغيرة تأكل صدرها، فلم تطق كتمان ما وعدت كتمانه ، فأسرته الى عائشه، وذاع الأمر بين نساء النبي كلهن.
وأكثرن من الحديث في شأنه والجدال في أمره، والنبي الكريم ليس خليا لهذا النوع من اللجاج والغيرة، فأراد أن يلقي عليهن درسا ليكون عبرة لهن وتذكرة.
عزم النبي أن ينقطع عن نسائه شهرا كاملا، تأديبا وردعا لهن عنا تمادين فيه من ائتمار به، وليخفف فيهن عوامل تلك الغيرة الحمقاء.
فأدى به عزمُه أن ذهب الى خزنة له، يرقى اليها على جذع من نخل، وليس بها من فراش الا حصير جاف خشن، وحسبه هناك لقيمات من شعير يقمن صلبه، ثم هو يجلس غلامه على سُدتها، دفعا للجاجه الزائرين.
والرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته يتجه تفكيره الى ربه، ويدير أمر المسلمين في الجزيره، والمسلمون في همّ مقيم مقعد، وشغلهم الشاغل انقطاع نبيهم في خلوته، حتى لقد شاع بينهم انه طلق حفصة بنت عمر بعد أن كان في افشائها ما وعدت بكتمانه، أول أنه مطلق نساءه جميعا.
كانو يهمسون بهذاـ والحسرة في قلوبهم، والهمّ يقض مضجعهم. وقد أقام الناس بالمسجد يعبثون بالحصى، ويجيلون العيون زائفه، لا تستقر على حال من القلق. وبينما هم كذلك إذ ينتفض عمر قائما من بينهم، فيقصد الى مقام النبي، ويستأذن غلامه رباحا، فاذا دخل الغلام الى سيده رجع الى عمر، ووقف فلم يجب. فيرفع ابن الخطاب صوته بالاستئذان والالحاح، فيؤذن له، فإذا هو بين يدي الرسول، ثم يجيل بصره في الحجرة ويبكي، والنبي يقول له: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ فيذكر للنبي سبب بكائه، فيردّه النبي الى الصواب بقول أي رفيق كريم.
ثم قال عمر: يا رسول الله، ما يشق عليك من أمر النساء؟ إن كنت طلقتهن، فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال، وعمر وأبا بكر والمؤمنين أجمعين. ثم يقبل على النبي فيحدثه بحديث يسري عن نفسه ويضحكه.
فلما آنس عمر منه ذلك ذكر له خبر المسلمين بالمسجد، وكلامهم وآلامهم، ورجا النبي أن يفضي اليه بالقول الفصل في أمر نسائه. فذكر له الرسول أنه لم يطلقهن. فنزل عمر الى المسجد، ونادى بأعلى صوته : ان النبي لم يطلق نساءه. فاستبشر الناس، وسرت الى قلوبهم الطمأنينه، واهتزو هزة الفرح والسرور واذا النبي مقبل على نسائه تائبات بين يديه عابدات، حتى نزل الروح الامين يحمل رسالة الله الكريم:
(يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم* قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم* واذ أسر النبي الى بعض ازواجه حديثا، فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير* ان تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما وان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكه بعد ذلك ظهير، عسى ربه ان يبد له أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا*). صدق الله العظيم
(سورة التحريم 1-5)