نص السؤال:
عندنا هرة ملازمة لنا في البيت، وكثيرًا ما تشرب من آنيتنا، وتأكل منها، وتلعقها بلسانها إذا بقي فيها فضلة طعام، فهل هي طاهرة، وسؤرها طاهر، أو نجسة، مع أنها تأكل من خشاش الأرض النجس، والنفس تكرهها لهذا السبب؟.
الجواب:
الهرة طاهرة، وسؤرها طاهر، فإذا شربت من إناء أو أكلت منه، وبقي في الإناء بقية من الشراب أو الطعام فهو طاهر غير مكروه . وردت بذلك الأحاديث، وذكرها الفقهاء ـ رحمه الله ـ في كتبهم .
فد روى أهل السنن الأربعة من حديث كبشة بنت كعب بن مالك ـ وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة ـ أن أبا قتادة ـ رضي الله عنه ـ دخل عليها، فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت . قالت كبشة: فجعلت أنظر إليه . فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم . فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات))[9] .
والطوافون: الخدم، والطوافات: الخادمات . فجعله صلى الله عليه وسلم بمنزلة المماليك في قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الانسان: 19] .
ومنه قول إبراهيم النخعي: إنما الهرة كبعض أهل البيت . كذا نقله الزمخشري .
وقال ابن أبي عمر في "الشرح الكبير"[10] على "المقنع" ـ المطبوع مع "المغني" ـ: سؤر الهرة وما دونها في الخلقة، كابن عرس، والفأرة، ونحو ذلك من حشرات الأرض طاهر، لا نعلم فيه خلافًا في المذهب: أنه يجوز شربه، والوضوء به، ولا يكره . هذا قول أكثر أهل العلم، من الصحابة، والتابعين, ومن بعدهم، إلا أبا حنيفة، فإنه كره الوضوء بسؤر الهر، فإن فعل أجزأه .
ورويت كراهته عن ابن عمر، ويحيى الأنصاري، وابن أبي ليلى . وقال أبو هريرة: يغسل مرة أو مرتين، وهو قول ابن المسيب، ونحوه قول الحسن، وابن سيرين؛ لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا ولغت فيه الهر يغسل مرة))[11] . وقال طاوس: يغسل سبعًا كالكلب . ولنا ما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك . . .، ثم ساقه بمثل ما تقدم، ثم قال: دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر، وبتعليله على نفي الكراهة عما دونها مما يطوف علينا . وعن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم))، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها . رواه أبو داود[12] . وحديثهم ليس فيه تصريح بنجاستها، مع صحة حديثنا، واشتهاره .
وإذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من مائع بعد الغيبة، فهو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى عنها النجاسة، وتوضأ بفضلها، مع علمه بأكلها النجاسات . وإن شربت قبل الغيبة، فقال القاضي وابن عقيل: ينجس؛ لأنه مائع وردت عليه نجاسة متيقنة .
وقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر قول أصحابنا طهارته؛ لأن الخبر دل على العفو عنها مطلقًا؛ وعلل بعدم إمكان التحرز عنها، ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة في مكان لا يحتمل ورودها على ماء كثير يُطهر فاها، ولو احتمل ذلك فهو شك لا يزيل يقين النجاسة؛ فوجب إحالة الطهارة على العفو عنها، وهو شامل لما قبل الغيبة . انتهى .